المدينة الفلسطينيّة: قضايا في التحوّلات الحضريّة | فصل

غلاف كتاب «المدينة الفلسطينيّة: قضايا في التحوّلات الحضريّة» (2021)

 

تعالج الدراسات الواردة في كتاب «المدينة الفلسطينيّة: قضايا في التحوّلات الحضريّة» (2021)، تحرير مجدي المالكي وسليم تماري، مجموعة من القضايا ذات العلاقة بالتحوّلات الّتي شهدتها المدن الفلسطينيّة منذ نهاية القرن التاسع عشر حتّى الآن. تشترك جميعها في إبراز أهمّيّة العوامل التاريخيّة والسياسيّة، وتحديدًا دور الاستعمار الإسرائيليّ الكولونياليّ، في تشويه المدن الفلسطينيّة وحجز تطوّرها تاريخيًّا، وتهويدها في الأراضي المحتلّة عام 1948، وفي مدينة القدس، من خلال سياسات ممنهجة ومساعٍ لإنتاج المدينة الفلسطينيّة كغيتو في أراضي الـ 48، كما في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة منذ عام 1967. تتناول كلّ هذه الدراسات عدّة محاور مهمّة تتعلّق بتطوّر المدن الفلسطينيّة تاريخيًّا، وإعادة تشكيل تنظيمها المكانيّ، والتحوّلات الّتي أصابت تركيبها المورفولوجيّ والديموغرافيّ، وتأثير العولمة والسياسات النيوليبراليّة في التشكّل الطبقيّ الجديد فيها، والأثر الاجتماعيّ للتحضّر المتسارع والتوسّع العمرانيّ الّذي شهدته مدن ما بعد «اتّفاق أوسلو» على وحدات التركيب الاجتماعيّ داخلها، وعلاقتها بمحيطها الريفيّ، وآليّات تبلور حركات مدينيّة مقاومة فيها، ودورها في تعزيز الهويّة الوطنيّة والثقافيّة بصورة عامّة، وتنقّل وتشابك النشاطات الثقافيّة والسياسيّة من مدينة إلى أخرى (من حيفا ويافا إلى الناصرة ورام الله).

شارك في الكتاب كلّ من: خالد زيادة، راسم خمايسي، عادل منّاع، أحمد أمارة، همّت زعبي، ليزا تراكي، جاد ثابت، عبد الحافظ أبو سريّة، جاك برسكيان، خلدون بشارة، سليم أبو ظاهر، فرانشيسكو أموروسو، جاودة منصور، أنشاتشو دومينغيز دي أولازابال، نسرين مزّاوي، أحمد حنيطي، شيراز نصر، وئام حمّودة، باسل ريّان.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة جزءًا من مقدّمة الكتاب بالتعاون مع الناشر.

 


 

كان النموّ الحضريّ، واتّساع عمليّة التمدّن، من أبرز نتائج التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والديمغرافيّة، الّتي حدثت خلال العقود القليلة الماضية داخل المجتمعات المتقدّمة الصناعيّة والنامية على حدّ سواء. وعلى الرغم من الفضائل الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة الّتي رافقت هذا النموّ، فإنّه أيضًا أصبح يشكّل تحدّيًا تنمويًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا مهمًّا لمعظم دول العالم، ومنها الدول العربيّة، نظرًا إلى ما رافقه من ارتفاع معدّلات سكّان الحاضر، وتعاظم ظاهرة الهجرة الداخليّة من الريف إلى المدن؛ فالانتقال المتسارع والمتزايد للمهاجرين الريفيّين وللجماعات الفقيرة والمهمّشة نحو المدينة، في ظلّ السياسات النيوليبراليّة الّتي اعتمدها العديد من هذه الدول، هذا الانتقال المتسارع الّذي يسمّيه آصف بيّات "الزحف الهادئ" نحو المدينة[1]، ترافق مع انتشار مظاهر سلبيّة، كالعشوائيّات وأحياء الصفيح الّتي تتّسع بالتدريج بفعل سياسات التفقير والعزل والاستغلال والإهمال، وما تعانيه تلك المناطق جرّاء نقص في الخدمات الأساسيّة، وشروط الحياة الصحّيّة، ومظاهر الاستغلال الاجتماعيّ للأطفال والنساء، والتلوّث البيئيّ.

تسارعت عمليّة التمدين في معظم الدول العربيّة، وتضخّمت مدنها وعواصمها سكّانيًّا وعمرانيًّا خلال القرن الماضي، فأصبح سكّانها يعيشون، أو معظمهم، في المناطق الحضريّة. وترافق ذلك مع تغيّرات اقتصاديّة واجتماعيّة وعمرانيّة عميقة أصابت مناحي حياتهم كافّة. وقد تسارع هذا التحوّل تاريخيًّا عبر ثلاث مراحل يشير إليها المؤرّخ خالد زيادة في مداخلته، وهي: مرحلة الإصلاح الّتي امتدّت حتّى ثمانينات القرن التاسع عشر، وخاصّة في عهدَي محمّد علي والخديوي إسماعيل، ثمّ المرحلة الاستعماريّة وما رافقها من تحديث عمرانيّ وسياسيّ لخدمة المستعمِر. أمّا المرحلة الثالثة فهي مرحلة الاستقلال أو الحكم الوطنيّ، وانحلال الأنظمة الكولونياليّة، والشروع في تنفيذ سياسات تنموية تحديثيّة في مجالات الاقتصاد وخدمات الرعاية الاجتماعيّة، وفي تطوير قطاعَي الصحّة والتعليم، وبناء الجيوش والأجهزة البيروقراطيّة الحكوميّة. ونتج من هذه السياسات المنحازة إلى المراكز الحضريّة والعواصم هجرات داخليّة متزايدة إليها، وتضخّم في حجم سكّانها وتحوّلات في تركيبها الاجتماعيّ وبنائها المورفولوجيّ الّذي خضع لتجاذبات بين ما هو عصريّ، وما هو تراثيّ أو تقليديّ، وبين ما هو وطنيّ، وما هو مُعَوْلَم[2].

بينما يُعْزى تطوّر المدينة في فلسطين وازدهارها إلى الفترة العثمانيّة المتأخّرة، فإنّ بداية إعاقة هذا التطوّر تعود إلى فترة الاستعمار البريطانيّ...

أمّا على الصعيد الفلسطينيّ، فقد تأثّر تطوّر المدينة الفلسطينيّة خلال السنوات المئة الفائتة، وما رافقه من تغيّرات عمرانيّة وسياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، بالأحداث السياسيّة المتلاحقة في المنطقة، وتميّزت أيضًا بخضوعها للاستعمار الاستيطانيّ. وبينما يُعْزى تطوّر المدينة في فلسطين وازدهارها إلى الفترة العثمانيّة المتأخّرة، فإنّ بداية إعاقة هذا التطوّر تعود إلى فترة الاستعمار البريطانيّ في فلسطين، وما تلاها، وصولًا إلى نكبة سنة 1948، وما تبعها من تهجير لما يزيد على نصف الشعب الفلسطينيّ؛ فالمدينة الفلسطينيّة صنعت التغيير وتأثّرت به، وعكس سيرورة تطوّرها وتحوّل طبيعتها، تاريخ مجتمع حضريّ فلسطينيّ وواقعه، باحث عن ذاته، وعن مأزق مشروعه التحديثيّ، وعن أسباب استمراره والحفاظ على بقائه، في ظلّ الهيمنة الاستعماريّة الاستيطانيّة الّتي تنكر وجوده؛ فقد كان من نتائج خضوعه للاستعمار البريطانيّ، ثمّ النكبة سنة 1948، تدمير المدينة الفلسطينيّة وطمسها عمرانيًّا، والعمل على إسقاطها من الذاكرة الجماعيّة.

تشير أعمال العديد من علماء الاجتماع الحضريّ، مثل غيدينز وهارفي وكاستلز، إلى أنّ عمليّة النموّ الحضريّ ليست مستقلّة عن غيرها، بل يجب تحليلها في سياق التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة الّتي تشهدها المجتمعات. فهناك ضرورة لربط أنماط التحضير بحركيّة المجتمع الواسع، وبالتالي تجنّب الخوض في عمليّات التحضّر باعتبارها مجموعات من الظواهر الجزئيّة المستقلّة؛ ذلك بأنّ عمليّة التحوّل الحضريّ ليست سيرورة معزولة عن غيرها، بل ينبغي لنا تحليلها في سياق علاقتها بأنماط وآليّات التغيّر المتعدّدة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع (غيدينز 2005؛ Harvey 2005). وإذا أردنا أن نفهم معنى المدينة، فعلينا أن نتقصّى عمليّة استحداث المجالات الحضريّة وتحوّلاتها من خلال علاقتها بمحيطها الاجتماعيّ والسياسيّ، لأنّ المدينة بيئة مصطنعة، وهي نتاج مجموعة من الظواهر الطبيعيّة والبشريّة تتأثّر بسكّانها وتؤثّر، بدورها، فيهم، فتتولّد لديهم ممارسات وثقافة تشكّل هويّتهم الجمعيّة (Castells 1983). وكما يشير غيدينز، علينا الأخذ بعين الاعتبار مجالات التلاقي والتقاطع والتفاعل والتأثير المتبادل بين عمليّة التحضّر ودرجة النموّ المركّب لمنظومة واسعة من القوى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. فالمدن تشكّل حاضنة للمنظّمات والمؤسّسات والحركات الاجتماعيّة والنشاطات الثقافيّة والفعاليّات الاقتصاديّة والاستثماريّة. وعلاوة على دور هذه القوى والمؤسّسات محلّيًّا وإقليميًّا، إلّا أنّ دورها المُعَوْلَم وعلاقاتها الشبكيّة الإقليميّة والعالميّة بات أمرًا واضحًا (غيدينز، مصدر سبق ذكره، ص 614).

المدينة الفلسطينيّة ليست استثناء لهذا، فهي نتاج أحداث وانعطافات تاريخيّة سياسيّة حاسمة، وتجربة اجتماعيّة شكّلت تاريخ فلسطين المعاصر، وأنتجت مجموعة من العلاقات والشبكات الاجتماعيّة الّتي تفاعلت فيما بينها لتمنح المدينة سماتها. إنّ التفاعل بين المكان والمجتمع والثقافة والتاريخ هو ما يمنح كلّ مدينة فلسطينيّة فرادتها وهويّتها، وهو ما يظهر جليًّا في سيرورة تطوّر المدن الفلسطينيّة المختلفة والمتعدّدة الّتي يبحث فيها المشاركون في هذا الكتاب.

لقد بدأت معالم تحوّلات تظهر على المدن الفلسطينيّة، ولا سيّما الساحليّة، منذ المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد تطبيق الإصلاحات العثمانيّة المعروفة بالتنظيمات؛ إذ كانت هذه المدن تنمو بتسارع ملحوظ مع تنامي مكانتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وازدياد عدد سكّانها، وتغيّر أنماط المعيشة فيها. كما بدأت التغيّرات تعصف بمدينة القدس العثمانيّة الّتي بدأت تتوسّع عمرانيًّا خارج أسوار المدينة، مع تشكّل بلديّة القدس، ثانيَ بلديّة أُنْشِئت في الدولة العثمانيّة بعد إستنبول[3].

بدأت معالم تحوّلات تظهر على المدن الفلسطينيّة، ولا سيّما الساحليّة، منذ المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد تطبيق الإصلاحات العثمانيّة المعروفة بالتنظيمات...

وغداة انتهاء الحرب العالميّة الأولى، تأثّرت التجمّعات السكّانيّة الحضريّة في فلسطين بالتحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة – الاقتصاديّة، الّتي خبرتها المناطق الفلسطينيّة جميعها؛ إذ خضعت للاستعمار البريطانيّ، بينما كانت أغلبيّتها شبيهة في درجة تطوّرها الحضريّ، وتكوينها الاجتماعيّ والاقتصاديّ، بمثيلاتها في مدن المشرق العربيّ الأخرى. وساهمت عوامل عدّة مركّبة ومتشابكة في تشكيل ملامح المدن الفلسطينيّة، خلال سنوات حكم الانتداب البريطانيّ، وحدّدت مسارات تطوّرها. وتمثّلت تلك العوامل في التطوّرات السياسيّة الخاصّة بتسارع تنفيذ المشروع الاستعماريّ الصهيونيّ، وتداخله مع سياسات الاستعمار البريطانيّ، ودرجة تماسّ المناطق الحضريّة بالحداثة في فلسطين، وتنوّع أشكال المؤثّرات الحداثيّة الّتي تعرّضت له، كالّتي نتجت من التطوّرات الّتي رافقت المشروع الصهيونيّ والهجرات اليهوديّة المتصاعدة، وتأثير التحوّلات الاقتصاديّة المحلّيّة والدوليّة، ولأنماط استجابات النخب المدينيّة المحلّيّة المهيمنة للتغيّرات الّتي كانت تعصف بفلسطين، ومدى انفتاح هذه النخب المدينيّة أو انعزالها على الاقتصاد العالميّ، وهي عوامل بمجملها تؤثّر في قيم هذه التجمّعات السكّانيّة ونخبها وممارساتها وثقافتها (القطب 1990؛ كيمرلنغ ومغدال 2001؛ تراكي وجقمان 2008؛ تماري 2005؛ صيقلي 1997؛ يزبك 2013).

وعلى الرغم من التأثيرات السلبيّة للاستعمار البريطانيّ وللحركة الصهيونيّة آنذاك، فإنّ المدينة الفلسطينيّة بدأت تنمو وتتشكّل لتكون حاضنة لإنجاز المشروع الوطنيّ؛ فتشكّلت مدن مركزيّة وسطيّة فيها حياة عصريّة حضريّة، وبينها توجد أنماط متنوّعة من التشكّل المدينيّ، فتطوّرت المدن الساحليّة سريعًا، ولا سيّما حيفا ويافا؛ كي تُشكّلا مركزًا للصحف والحركة الثقافيّة، وتجمّعًا للتجّار والمصرفيّين، وللقرويّين المهاجرين، وللعمّال الأجيرين، وللمبادرين بالمشاريع الصناعيّة، ولناشطي النقابات والاتّحادات المهنيّة. وفي ثلاثينات القرن العشرين، أصبحت هاتان المدينتان أهمّ مدينتين ساحليّتين في فلسطين؛ فقد مثّلتا وجهًا جديدًا لحداثة المجتمع الفلسطينيّ. بينما حافظت مدينة القدس؛ بفعل مركزها الدينيّ وقداستها، على مكانتها السياسيّة والسياحيّة. واستمرّت مدن الخليل ونابلس وغزّة والرملة واللدّ بالحفاظ على تكوينها المجتمعيّ المحافظ، في ظلّ استمرار هيمنة العائلات المتنفّذة فيها، بينما تراجع النموّ الحضريّ في مدينة عكّا؛ المركز الإقليميّ التاريخيّ لشمال فلسطين (تماري، مصدر سبق ذكره، ص 20-22، الماكي ولدادوة 2018، ص 41-51). وهكذا، عكست التحوّلات الّتي شهدتها التجمّعات الفلسطينيّة في المدن والأرياف، خلال النصف الأوّل من القرن العشرين، حقيقة أنّ فلسطين لم تكن يومًا أرضًا بلا سكّان، كما تدّعي الحركة الصهيونيّة، ولم تكن أرضًا يسكنها البدو الرحّالة والمتنقّلون فقط، كما ادّعى العديد من الأدبيّات الاستشراقيّة، وإنّما كانت بلدًا ينبض بالحياة بكلّ تناقضاتها[4]، وتفاعلت هذه التجمّعات مع التغيّرات السياسيّة السريعة الّتي كانت تعصف بالبلد.

 


إحالات

[1] انظر: آصف بيّات، الحياة سياسة، كيف يغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط، ترجمة: أحمد زايد (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2014).

[2] لمزيد من التفصيلات عن تسارع عمليّة التمدين في البلاد العربيّة، انظر: مجموعة من المؤلّفين، المدينة العربيّة: تحدّيات التمدين في مجتمعات متحوّلة (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2020).

[3] لمزيد من التفصيلات، انظر: روشيل ديفيس، القدس العثمانيّة: نموّ خارج الأسوار، في: مجموعة من المؤلّفين، القدس 1948: الأحياء العربيّة ومصيرها في حرب 1948، تحرير سليم تماري (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2002)؛ سليم تماري، بين الأعيان والأوباش: الرؤية الجوهريّة في تاريخ القدس الانتدابيّة، في: عصام نصّار وسليم تماري، دراسات في التاريخ الاجتماعيّ لبلاد الشام: قراءات في السير والسير الذاتيّة، (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2007)، ص 206.

[4] تأكيدًا لذلك، انظر الموسوعة الّتي ألّفها الدبّاغ – مصطفى مراد الدبّاغ، بلادنا فلسطين (كفر قرع: دار الهدى للطباعة والنشر، 2006)، والّتي تقدّم صورة حقيقيّة لفلسطين النابضة بالحياة آنذاك.

 


 

مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة

 

 

 

مؤسّسة فلسطينيّة بحثيّة مستقلّة.